كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يا بني لما تقول لإنسان: تذكر، معناه أن الشيء هذا يعرفه من قبل، لكن تعلم غير تذكر.
تذكر غير تعلم، تعلم شيء جديد لكن تذكر شيء لك علاقة به من قبل.
فالعقائد توحيد الله جل وعلا شيء مفطور في النفوس فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: {أفلا تتذكرون} يعني مجرد لو رجعتم إلى أنفسكم قليلا تذكرتم الشيء الذي فطره الله في قلوبكم لعرفتم أنه لا رب غيره ولا إله سواه. هذا يدل على أن عقيدة التوحيد أمر مفطور في النفوس يعرفه كل أحد إذا من الله جل وعلا عليه بالهداية. {أفلا تتذكرون}.
ثم قال: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. مجمل الآية معناها يقول:
أنا إبراهيم اتبعت وعبدت من بيده الضر والنفع وأنتم تعبدون من ليس بيده لا ضر ولا نفع.
فمن الذي مفروض يخاف؟ هم لما عبد الله قالوا نخاف عليك من آلهتنا نخاف عليك من أصنامنا نخاف عليك من الشمس نخاف عليك من القمر نخشى عليك من النجوم فالله يعلمه أن يقول لهم كما قال إبراهيم لهم: {وكيف أخاف ما أشركتم} يعني كيف أخاف أنا من الذين أشركتم من أصنامكم وأنتم لا تخافون من الله! مع أن المفروض الذي يخشى منه من؟ الله لأن بيده الضر والنفع أما أصنامكم هذه لا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر وكل من عبد من غير الله لا يقدم ولا يؤخر ولا يضر ولا ينفع، هذه الأمور كلها بيد الله.
{وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن} استفهام استنكاري {فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون}؟ ثم جاء الجواب: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة كما روى البخاري وغيره، فقالوا يا نبي الله وأينا لم يظلم نفسه قط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس بالأمر الذي تعنون» أو «تذهبون إليه إنما الأمر كما قال العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم}» فيصبح معنى قول الله جل وعلا: {يلبسوا إيمانهم بظلم} معناها ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
{ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} وقد جرت- كما بينا سلفا- سنة الله في خلقه أن هناك أمنين وهناك خوفين:
من خاف الله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن لم يخف الله في الدنيا خاف يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبد خوفين ولا يعطي عبدا أمنين، إنما الأمن الموجود في الدنيا السكينة والرضا بالله لكن لا يعني ذلك عدم الخوف من الله، الله جل وعلا قال لما ذكر الساعة قال: {والذين آمنوا مشفقون منها} [18] سورة الشورى، أي خائفون من الساعة فالخوف لابد منه في الحياة الدنيا. {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.
ثم قال جل ذكره: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} [83] سورة الأنعام، {وتلك حجتنا} أي هذه الحجج التي أعطيناها إبراهيم ليرد بها على قومه فضل من الله على هذا العبد الصالح {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} فلما كانت من الله كانت فضلا منه قال الله بعدها: {نرفع درجات من نشاء} وإبراهيم من أعظم من رفعهم الله جل وعلا درجات. {نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}. ثم قال جل وعلا: {ووهبنا له} فبعد أن من الله عليه بالعطاء من النبوة والرسالة من الله عليه بالذرية قال الله: {ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [86] سورة الأنعام.
الآن نترك الوعظ نرجع قليلا للناحية العلمية:
نحن قلنا في دروس كثيرة أن الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نبيا هذه الآية آية الأنعام تسمى آية: {وتلك حجتنا} ذكر الله فيها كما تلوناها ثمانية عشر نبيا بقي سبعة هم:
في تلك حجتنا منهم ثمانية ** من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا ** ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

هؤلاء السبعة الذين ذكروا في القرآن في غير هذه الآيات، ذكر الله ذي الكفل وذكر آدم وذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر شعيبا وهودا وإدريس وصالحا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
نبدأ نفصل فيما لم نشرحه عنهم:
قلنا إن الله جل وعلا قال: {ووهبنا له} لإبراهيم {إسحق ويعقوب} ولما ذكرنا يعقوب في درس النافلة قلنا إن النافلة الزيادة على الأصل وقلنا إنها تختلف كل شيء زاد عن الأصل يسمى نافلة فقلنا قيام الليل يسمى نافلة لأنها زيادة على الصلوات المكتوبة.
قال الله جل وعلا- نتعلم القرآن من القرآن- قال الله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [79] سورة الإسراء، فصلاة الليل أو أي نافلة يسمونها العامة سنة زيادة على الأصل تسمى نافلة.
الناس عندما يغزون ماذا يريدون؟ يريدون النصر، عندما يحصل النصر ما الزائد؟ الغنائم فلذلك قال الله: {يسألونك عن الأنفال} [1] سورة الأنفال، سماها زيادة الأنفال الغنائم الزيادة على مقصود الحرب، قال الله: {ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة}، {ومن وراء إسحاق يعقوب}، فذكر الله جل وعلا أنه رزقه بعد إسماعيل إسحاق ثم زيادة على الأبناء أبناء الأبناء فسمى يعقوب نافلة لأنه زيادة على الأصل وهو الولد.
نعود هنا للآية: {ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل} من قبل إبراهيم وهذا يسمى إضافة منقطعة وقبل وبعد إذا أضيفت تجر وإذا لم تضف تبنى على الضم {من قبل صلاة الفجر} [58] سورة النور. فمن قبل لما أضيفت إلى صلاة كسرت لكن قال: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [4] سورة الروم، حذف المضاف إليه تضم، هنا نفس الشيء قال الله: {ونوحا هدينا من قبل} أي من قبل هداية إبراهيم زمنيا وإن كان إبراهيم أفضل من نوح.
{ونوحا هدينا من قبل} ونوح يسمى شيخ الأنبياء؟ لأنه أطولهم عمرا وإبراهيم يسمى أبو الأنبياء؟ لأن كل الأنبياء بعده من سلالته وذريته. {ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان} إلى آخر الآيات.
هذه {ومن ذريته} موضع إشكال لماذا؟
لأنه لا يدرى أن تعود على نوح أو تعود على إبراهيم، وأنا قلت سأترك الوعظ الآن.
{ومن ذريته} إذا قلنا إنها تعود إلى نوح يؤيدها أمران:
الأول: أن قواعد اللغة تقول أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكورهو نوح.
والأمر الثاني: قال الله جل وعلا: {ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين} في الآية الثالثة هي: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين}، قالوا إن لوط بالاتفاق ليس من ذرية إبراهيم، ابن أخيه، لوط ابن هاران وهاران أخو إبراهيم، فمن حيث النسب الصريح لوط ليس ابنا لإبراهيم إنما ابن أخيه. فقالوا: هذان دليلان على أن المقصود نوح.
يبقى الجواب عليها- طبعا لا يوجد مرجح: الذين قالوا إن {ومن ذريته} عائدة إلى إبراهيم قالوا: إن الآيات أصلا في مقام الثناء على إبراهيم، وهذا واضح إن الله يتكلم عن إبراهيم {ونوحا هدينا من قبل} جملة اعتراضية هذه الأمر الأول.
الأمر الثاني: قالوا إن الله سمى في القرآن العم أبا، في سورة البقرة {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق} [133] سورة البقرة، هؤلاء أبناء يعقوب يقولون لأبيهم: {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق} فإبراهيم أبو يعقوب جده وإسحاق أبو يعقوب مباشرة لكن إسماعيل ليس أبا ليعقوب إنما عم له، فقالوا هذا من الأدلة على أن الله سمى في كتابه العم أبا.
طبعا ما الراجح؟:
لا يوجد راجح، لأنه لا يوجد مرجح، لا يكون القول راجح حتى يكون في شيء مرجح ولا يوجد مرجح هذان قولان كلاهما متكافئان، فنقول تحتمل الآية الأمرين والله أعلم بمراد الله منها، تأدبا مع كتاب الله.
{ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى} كلهم مروا معنا وقدم الله داود وسليمان لأن الله أعطاهم الملك والنبوة.
{ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون} وكلهم مروا معنا {وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى} ويحيى ابن لزكريا وأيهم مات قبل الآخر؟ مات يحيى مقتولا عليه السلام في حياة أبيه زكريا، وقلنا إن زكريا رزق الولد وهذا معروف بعد انقطاع، رزق يحيى، وقلنا: إن الله لماذا سمى يحيى يحيى؟ طبعا لم يكن أحد يسمى يحيى قبل هذا الاسم الله قال: {لم نجعل له من قبل سميا} [مريم: 7] قلنا: أسماه يحيى لأن يحيى عليه السلام مات شهيدا، فناسب الاسم المسمى فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
{وزكريا ويحيى وعيسى} ما القرابة بين يحيى وعيسى؟ ابني خالة، وقد ورد حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه: {ما من عبد من ولد آدم إلا وعصى الله إلا يحيى بن زكريا} لم يعصي الله طرفة عين قال صلى الله عيه وسلم: {ما من أحد من ولد آدم إلا وقد عصى الله طرفة عين ليس يحيى بن زكريا} أي إلا يحيى بن زكريا، ويظهر من نصوص التواريخ أنه مات صغيرا عليه السلام. لكن كما قلنا قد يوجد مفضول ما هو أفضل من الفاضل.
{وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين} إلياس ذكره لله ست مرات تقريبا في القرآن وبعثه الله جل وعلا إلى أهل بعلبك شرقي دمشق في لبنان حاليا، وقد قال الله جل وعلا في كتابه: {وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} [123- 125] سورة الصافات. {وإلياس كل من الصالحين} ثم قال: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين}.
وقلنا إن الخلاف في لوط وأن لوطا بالاتفاق ليس ابنا لإبراهيم ولكنه ابن لهاران وهاران أخ لإبراهيم، فإبراهيم عم له لكن قلنا إن الله سمى العم أبا في كتابه والاحتجاج بالقرآن ليس بعده احتجاج.
يفهم من السياق الذي سلف أن مراتب التفضيل أربعة:
طبعا نتكلم عن المؤمنين: النبوة والصديقية والشهادة والصلاح.
قال الله تبارك وتعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [69] سورة النساء.
ثم قال جل وعلا: {وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} أي فضلناهم بالنبوة.{وكلا فضلنا على العالمين}.
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} [87] سورة الأنعام.
عندما قال: {آبائهم} يعني الأصول، ثم قال: {وذرياتهم} ذكر الآباء في الأول لأنهم أصول ثم قال: {ومن آبائهم وذرياتهم} ماقال من إخوانهم لأن الأبناء فروع، ما دام ذكر الأصول سيذكر الفروع ثم قال: {وإخوانهم} والإخوان لا هم أصول وليسوا فروع يسمون حواشي، فترتيب القرآن ترتيب منطقي ذكر الله أولا الأصول ثم ذكر الفروع ثم ذكر الحواشي، فالله يريد أن يقول أن نعمة الله على إبراهيم ليست فقط محصورة في هؤلاء الصالحين في أنفسهم وإنما في أصولهم وفروعهم وحواشيهم.
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم} من الذي اجتباهم؟ الله، ومن الذي هداهم؟ الله: {وهديناهم إلى صراط مستقيم} لأجل ذلك قال بعدها: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [88] سورة الأنعام.
كل من يلتمس شيء لن يلتمس شيئا أعظم من الهداية. والهداية إنما تطلب من الله وسيأتي قصة تبين لك هذا بعد قليل، لا يطلب شيء في الدنيا أعظم من الهداية، في الدنيا لاشيء أعظم من الهداية والهداية إنما تطلب من الله، ولذلك قال الله: {ذلك هدى الله} نسبه وأضافه إلى نفسه {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا} على الفرض وإلا لا يعقل أنهم سيشركون {لحبط عنهم ما كانوا يعملون} نستفيد منها إجمالا أن الشرك يحبط كل عمل {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}.
إلى هنا ننتهي في هذا المقطع.
بقي المقطع الأخير الذي نريد أن نقف عليه في التفسير:
قال الله جل وعلا: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [93] سورة الأنعام.
يا بني لأنك طالب علم اخترنا هذه الآيات حتى تعيها:
لا شيء أعظم من أن يفتري الإنسان على الله الكذب {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} أي لا أحد أعظم جرما ولا أشد شناعة ممن يفتري الكذب على الله وليس بمعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الملة ويفتري على الله الكذب، يعني حاشاكم بإذن الله.
لكن المقصود بالنسبة لنا: عدم الجرأة في العلم والقول على الله بلا علم {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} [116] سورة النحل، هذا الذي يعنينا لكن الآية في الأصل المخاطب بها كفار قريش، وكانوا يكذبون على الله ويفترون على الله الكذب وينسبون إلى الله جل وعلا ما لم يقله الله ولم ينزله على أحد، فأخبرهم الرب جل وعلا أن هذا ظلم شنيع وتحد عظيم وأنه لا أحد أعظم فرية من ذلك، {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} يدخل في هذا مسيلمة ويدخل فيها الأسود العنسي.